story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

أنشودة الحرية!

ص ص


لماذا لم تسفر نضالات الشعوب الحديثة والمعاصرة، منذ أكثر من أربعة قرون، عن تحررها الفوري والكلي، رغم أنها بذلت في سبيل ذلك الغالي والنفيس؟ ولماذا لم يتحقق هذا المبتغى، رغم ما أنتجته الإنسانية من فلسفات ونظريات حول الحرية والمساواة والديمقراطية والتعددية وغير ذلك من المفاهيم التي تطرب الأذن؟ هل يميل الإنسان بطبعه إلى العبودية والاستبداد والخضوع؟ أم أن تصوره حول حريته لم يفرز فهما دقيقا وكاملا حتى الآن؟ أم أن الواقع البشري، رغم فظاعاته وبشاعاته وجرائمه، لا يقدم أفكارا وحججا وأدلة واضحة حول ما ينبغي أن يكون عليه الإنسان الحر؟
من ناحية أخرى، لماذا تصر جماعات وكيانات على أن تستعبد الآخرين؟ ولماذا لا تشبع من استعبادهم والهيمنة عليهم؟ بل لماذا تذهب، حين لا ترضى على عبوديتهم، إلى حد التنكيل والفتك بهم؟ ألأن ذلك يلبي حاجة التفوق ويحافظ على متطلبات السيادة؟ أم أنه يفيد أن حرية السيد لا تتكرس إلا بإلغاء حرية الآخرين؟ لطالما قرأنا وسمعنا الأسياد يتحدثون عن حقهم في أن يفعلوا ما يشاؤون بعبيدهم. بل إن نصوصا دينية تنص، صراحة لا ضمنا، على أن أبناء فلان أو علان يملكون ‘الحق الإلهي’ في استعباد أبناء فلان أو علان. لماذا يتأسس استرقاق الآخرين في الغالب على افتراض وجود أمر إلهي بفعل ذلك؟
إليكم مثلا هذا النص المأخوذ من التوراة: “ملعونٌ كنعان! عبداً ذليلاً يكون لأخوته… تبارك الربّ إله سام، ويكون كنعان عبداً لسام. ويزيد الله يافث، فيسكن في خيام سام، ويكون كنعان عبداً له.” إن الإبادة الجماعية التي ترتكب اليوم في فلسطين هي التطبيق الحرفي لهذا النص، الذي استندت إليه كل المحاولات السابقة التي سعت إلى طرد الكنعانيين من أرضهم. وحتى لو افترضنا أن هذا النص مُلزِم لطائفة دينية بعينها، فهل يجوز لها أن ترتكب أبشع الفظاعات في حق شعب أعزل، وأن تستعمل آخر ابتكارات الأسلحة لتطرده من أرضه؟
لا يمكن أن ننظر إلى هذه الفظاعات الجارية اليوم في فلسطين، بوصفها حالة تاريخية معزولة، بل هي استمرار لحالات إجرام مماثلة جرت في حق الشعوب الأصلية في العالم الجديد، وفي القارة السمراء، وفي الهند والصين، وفي جنوب أفريقيا، وفي العراق وسورية واليمن، الخ. لكن الغريب في الأمر أنها ظلت ترتكب باسم قيم ومُثُل إنسانية نبيلة؛ باسم الحضارة في وقت سابق، وباسم الحرية والديمقراطية في الوقت الراهن. بل نجد، ويا للغرابة، أن من يرتكبها يعطي لنفسه الحق دائما في أن يصف نفسه بأنه حر، وأن يصنف الآخر بأنه متخلف أو همجي أو حيواني، الخ.
إلا أن بوادر تحرر العالم من مختلف أشكال الهيمنة بدأت تظهر إلى الوجود منذ وقت، وإن كانت تبدو حذرة أو محتشمة حتى الآن. هناك جنوب عالمي أخذ يتحرك فكريا وسياسيا واقتصاديا ويشكل تيارا مستقلال بذاته، بغية التقليل من هيمنة القطب الواحد والحد من آثار التداول بالدولار، ومن إملاءات الصناديق المالية العالمية. وثمة دول صغيرة، مثل مالي وبوركينافاسو والنيجر، طردت فيالق الجيوش الفرنسية من أراضيها، وبدأت تتحرك لبناء مستقبلها، بعيدا عن الوصاية الإمبريالية الجديدة. وهناك دولة انعتقت بالأمس القريب من الأبارتهايد، وأخذت على عاتقها أن تتابع نظام أبارتهايد آخر في المحاكم الدولية، بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب وإبادة في حق الفلسطينيين، دون أن تبالي بما تمثله الصهيونية العالمية من خطر على وجودها. ثم هناك وهناك…
ولأن زخم هذه البوادر أخذ يكبر ويؤثر في مسارات تحرر العالم، بدأنا نرى البوارج العسكرية الضخمة تتدخل هنا وهناك، بالتخويف والتهديد تارة، وبالتدخل الفعلي تارة ثانية. ولا شك أن تحرر العالم تنتظره أيام حالكة. فضلا عن ذلك، ثمة نزوع كبير، في الغرب على الخصوص، إلى اختيار أشخاص يمثلون الصناديق المالية والشركات الكبرى التي تميل نحو الهيمنة على الشعوب الأخرى، أو يمثلون اليمين المتطرف الذي يرفض وجود حرية الآخرين. وهذا النزوع هو أقرب إلى الدكتاتورية.
فهل ستكون مسارات تحرر الشعوب سالكة في المستقبل القريب؟