story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

أدب المقاومة من مسافة صفر

ص ص

قبل أكثر من سبعين سنة، وأيام كان بفرنسا فلاسفة وكتاب قادرون على تحريك الراكد وخلخلة الوعي، ابتكر المنظر ‘رولان بارث’ مفهوم ‘الدرجة الصفر في الكتابة’، ليرفع الأعباء السياسية والأيديولوجية والثقافية والاجتماعية عن الكتابة، ويحررها من التقاليد القرائية والقيود النقدية حتى يكون النص الأدبي قادرا على إعادة تشكيل معناه وتثوير مدلولاته. كان ‘بارث’ يسعى، بالطبع، إلى أن تتمكن الكتابة من الوصول إلى آفاق خلاقة مغايرة عن تقاليد الكتابة المعروفة.

وفي أيامنا هذه، نجح المقاوم الفلسطيني، الذي كاد العالم أن ينسى قضيته الإنسانية والوطنية العادلة، في أن يبتكر درجته الصفر في المقاومة. فقد أعاد هذا المقاوم تشكيل قواعد الاشتباك مع عدوه، استطاع هو الآخر أن يكبد آلة البطش الصهيونية خسائر فادحة، في العدة والعدد، وأن يقف صامدا أمامها، رغم تفوقها العسكري والتكنولوجي. وتعبر درجة الصفر في المقاومة عن الاشتباك المباشر مع العدو الصهيوني في ميدان المعركة نفسه من مسافة صفر، بل من انعدام المسافة نفسه. وتعبر هذه الدرجة عن معادلة حربية تمكنت، منذ اليوم الأول من ‘طوفان الأقصى’، من أن توقف ‘الجيش الذي لا يقهر’ على ‘رجل ونص’، كما يقول الأشقاء المصريون، بل أن تزرع الرعب في قلوب الجنود الصهاينة المدجج بآخر اختراعات الأسلحة الأمريكية الفتاكة.

على الصعيد السياسي والعسكري، أعادت درجة الصفر من المقاومة الصراعَ إلى أوله، بعد أن اعتقد الكيان الصهيوني أنه حسم الساحة الفلسطينية، وأخذ يستعد لاكتساح الساحات المجاورة، تمهيدا لإنشاء ‘إسرائيل’ الكبرى. وعلى الصعيد الإبداعي، ضخ ‘طوفان الأقصى’ شحنة جديدة في الأدب والفن، قوامه أغنيات وقصائد ثورية بنفس جديد، بعد أن أخذ الإبداع الملتزم يتلاشى أمام فيض التفاهة الذي تغلى به وسائط التواصل الاجتماعي. لكن هذه الشحنة تكاد تكون مقصورة على الأدباء المشارقة، الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين واليمنيين على الخصوص. لكنها محتشمة، بل فاترة هنا، كأن هذا الجحيم المصبوب من السماء يصلي قوما آخرين، لا الفلسطينين، كأن غزة المنذورة منذ شهور، بل سنوات وعقود، للنار والرماد والجثث هي بلاد تقع في كوكب آخر، لا على كوكب البشر.

في أيام المقاومة الأولى، كانت الآلام في أرض فلسطين تحرك الأقلام في الأرض كلها، لا في المغرب وحده. في تلك الأيام، كانت القاعات والساحات تحتشد للإنصات إلى شاعر يقرأ قصيدته الثائرة على الوجود، أو قاص يسخر من زعماء العالم، أو قائد سياسي يتلو بيان حزبه بنبرة تبز لينين ثوريته… في تلك الأيام، كانت الحناجر تصدح بفلسطين، ولا شيء غيرها: ‘كلنا فداها’. وإن لم تَفْدِها في الواقع إلا قلة على ميدان المعركة، إلا أنها ظلت دوما مهوى القلوب. لا يعزف عنها أحد. نجدها في الجداريات، واللوحة، والأغنية، والأنشودة، والشذرة، والقصة، والمقالة، والرواية، والمقالة، والرسالة، الخ.

لم هذا البوار في الأدب؟ لم هذا الاستنكاف عن قضية هي أم القضايا وأنبلها؟ ما الذي يجعل هذه المئات، إن لم نقل الآلاف، من الأقلام المتزاحمة في الفايسبوك، لا تحرك ساكنا أمام هول الفاجعة التي يكابدها الفلسطينيون اليوم؟ هل جفت الأقلام بريح الغرب الجافة جفاف هذا الجو الذي يأبى أن يرتفع؟ أم تعبت العقول بعد خمس وسبعين سنة من الكلام الذي لم يؤدِّ إلا إلى مزيد من الجبروت والتعنت، والقتل والتهجير؟

لا ينبغي أن تتعب العقول، خاصة أن المقاومة نجحت في أن تقاوم من مسافة صفر على امتداد ثلاثة أشهر؟ متى كانت حرب الكيان تبدأ ولا تتوقف؟ في تلك الأيام، كانت دولته المارقة تهش على الجميع في ستة أيام، لا غير. لكن المقاومة الحقيقية، في تلك الأيام، كانت تجري في العقول. تحرك الخيال مشرقا ومغربا، فتبقي جذوة المقاومة حية في الأذهان، بعد أن تعود الجيوش منهزمة إلى ثكناتها. تقدح شرارة مئات، بل آلاف النصوص التي تبقي القضية حية في الذاكرة.
لا يملك الشاعر والقاص والفنان، في هذه الأيام، إلا كلمات. فيلقها، ثم يمضي.