story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
سياسة |

آخر ما قاله الحسن الثاني قبل وفاته: سيهتزّ المغرب طربا والمال سيجري كالماء

ص ص

في صيفه الأخير، وقف الحسن الثاني على منبر الدولة ليُلقي كلمته الوداعية دون أن يسميها كذلك. لم يكن يعلم أن خطابه لعيد الشباب في يوليوز 1999 سيكون آخر ما يُخاطب به شعبه، لكنه تصرف كما لو أن الموت يطرق بابه فعلاً:

استعرض الملك الراحل حصيلة حكمه، وقدّم ابنه إلى المغاربة باعتباره وريث العرش والتضامن، وتخيل المستقبل الذي لن يعيشه. وعدهم أن سنة 2000 ستكون عام العمل والبناء واهتزاز الأرض من الشمال إلى الجنوب، وأن المال سيجري كالماء، لكنه غاب قبل أن يتحقق وعده.

كان خطابه ذاك خلاصة لملِك أنهكته المعارك وأثقلته الأسئلة الكبرى: البطالة، التعليم، الخوصصة، والانتقال السياسي. ومع ذلك، لم يُسلّم المشعل فقط، بل رسم ملامح المشروع الذي سيحمله وريثه: مغرب “ملك الفقراء”، كما ستلقبه الناس لاحقاً.

هذه قراءة في آخر ما قاله الحسن الثاني، وفي المغزى العميق لوداعٍ لم يُعلن… لكن كلماته كانت كافية لفهمه.

تمهيد ل”ملك الفقراء”

ارتبطت عبارة “ملك الفقراء” التي استعملت طويلا كوصف للملك محمد السادس بعد توليه الحكم، بانتقال العرش إليه من والده الملك الراحل، باعتبار ذلك وجها من أوجه الاختلاف بين الملك الأب والملك الابن.

إلا أن خطاب العرش الأخير الذي ألقاه الحسن الثاني، يحمل بذور هذا الوصف الذي التصق بوريث عرشه، حيث قدّم ولي عهده كمكلّف بتتبع مبادرات التضامن الاجتماعي.

“وقد أثلج صدرنا أن عمليات التضامن الاجتماعي والتي كان من بينها العمليات التي عهدنا بالإشراف عليها وتوجيهها لولي عهدنا وابننا البار الأمير سيدي محمد، قد فسحت المجال أمام مشاعر التضامن الاجتماعي لدى المغاربة للتعبير عن رسوخها في وجدانهم بصورة عفوية مطبوعة بالتألق والحماس، غير أن هذه الانطلاقة المحمودة لا ينبغي أن تكون مرتهنة فقط بظروف آنية، بل على العكس يجب أن تتواصل. لأن الأمر يتعلق بمعركة نخوضها بعمق على واجهة جديدة من أجل ضمان عيش أرغد لكافة رعايانا الأوفياء” يقول الحسن الثاني في خطاب 3 مارس 1999.

فيما كان آخر ما قاله الملك الراحل للمغاربة، هو خطابه الرسمي في ذكرى عيد الشباب لـ9 يوليوز 1999. وكان عنوان ذلك الخطاب، وعود بنعيم قادم فوق موجة الخوصصة التي سجّلت أحد أهم منجزاتها حينها، عبر الرخصة الثانية للهاتف المحمول.

أول ما تحدّث عنه الحسن الثاني في خطابه الأخير قبل الرحيل، كان مشكلة البطالة، وقال فيه إنه “في مثل هذا اليوم من السنة الماضية كنت قطعت على نفسي أمامك، شعبي العزيز وشبابي العزيز، أن أجعل من مشكلة البطالة بكيفية عامة، وبطالة الشباب المتخرج بكيفية خاصة، معركتنا الأولى وهدفنا الأسمى بعد قضيتنا الترابية”.

وفي تأكيد على وفائه بالود، قال الملك الراحل: “وها أنا اليوم ولله الحمد يمكنني، شبابي العزيز، أن أعطيك بعض الأرقام، وهي أرقام لا تفي بما يجب أن يكون عليه الأمر، ولكن «ما لا يدرك كله لا يترك بعضه» وإن كان البعض هنا بعضا مهما في ما يخص مشكلة الشباب العاطل الحائز على الشهادات”.

لا تدرسوا البيولوجيا والنووي

الأرقام التي ساقها الملك المقبل على الرحيل، تمثلت في أنه و”منذ سنة 1998 إلى يومنا هذا تمكنا من أن نشغل أحد عشر ألفا من المتخرجين من التكوين المهني، وثمانية آلاف وثمانمائة من الذين لهم شهادة في مستوى الإجازة، وألفين فقط من الدكاترة أو المهندسين ذوي المستوى العالي.

وهكذا نصل إلى رقم واحد وعشرين ألفا وثمانمائة في سنة واحدة لم نكن مهيئين تماما لاستيعابها، ولكن الله سبحانه وتعالى أيدنا بقوته، فأعطانا المخيلة اللازمة، والإقدام اللازم لإدراك هذا الهدف”.

وفي استباق لما يستشف من تلك الأرقام من ضعف في تشغيل الأطر العليا، استطرد الحسن الثاني قائلا: “يمكن لكم أن تتساءلوا عن سبب كون الذين حازوا على الشهادات العليا في العلوم الدقيقة جدا هم الذين يجدون صعوبات في إيجاد الشغل، إن الجواب سهل، هو أن جل هذه الآلاف قد درسوا إما البيولوجيا المتقدمة جدا، وإما الفيزياء النووية، أو ما هو في مستوى هذه العلوم المتقدمة جدا والمتطورة جدا.

فكيف يمكننا أن نخلق مختبرا لكل شاب أو شابة له دبلوم في البيولوجيا، وكيف يمكننا أن نشغل نحن في المغرب شخصا حائزا على شهادة الفيزياء النووية، فبصراحة هذه علوم تقتضي في الواقع من المربين والمدرسين والموجهين أن يحاولوا إبعاد أكثر ما يمكن من الناس عنها، لأنهم لن يجدوا مجالا للشغل ولا للتشغيل، فلهذا ترون أننا شغلنا ألفين فقط، وكيف تم ذلك حتى بالنسبة لهؤلاء: لقد وضعناهم رهن إشارة الصناعات المتقدمة جدا والمتطورة جدا برضاهم بالطبع، والتزمت تلك الشركات وأولئك المقاولون بأن يستفيدوا من الدراسات العليا التي يتوفر عليها هؤلاء، وأن يدمجوهم ويبرمجوا ويكيفوا تلك المعلومات التي يتوفر عليها هؤلاء الدكاترة حتى يمكنهم أن يندمجوا في النسيج الصناعي الوطني”.

لينتقل الملك الراحل لإعطاء وعد لم يكن يعلم أنه لن يفي به لأن الموت سيحرمه من ذلك، حيث انتقل للحديث عن التعليم ومشاكله، وقال: “وبالنسبة لبرنامج التعليم سأحدثك عنه، شعبي العزيز، إن شاء الله في 20 غشت. لأنني سأكون آنذاك قد توصلت من اللجنة بدراستها كاملة.

وأريد أن أتطرق آنذاك شعبي العزيز إلى مشكلة التعليم وكيفية حلها مقارنة مع 20 غشت. لأن هي التي تجسد مقالة النبي (ص) التي رددها حفيده وسليله سيدي محمد الخامس طيب الله تراه حينما قال : « رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر». وعودة لنا في هذا الموضوع يوم 20 غشت إن شاء الله”.

أبشركم.. المغرب سيهتز بالعمل والبناء والتجهيز

“كما تعلم شعبي العزيز أقبلنا على خوصصة الاتصالات عن طريق الرخصة الثانية لاستغلال الهاتف المحمول، وكنا حينما شرعنا في هذا الموضوع توخينا أن نصل في هذه المزايدات والمنافسات إلى رقم 400 مليون دولار. الشيء الذي كان مهما جدا بالنسبة لحجم المغرب، وكم كانت دهشتنا وفرحتنا عظيمة حينما رأينا أن المتنافسين تنافسوا إلى حد أن الفائز بهذه الرخصة وصل إلى مليار وما ينيف عن المليار دولار. أو بعبارة أوضح 11 مليار من الدراهم”، يقول الملك الراحل في خطابه، قبل أن ينتقل إلى توضيح معنى ذلك الرقم وما اعتقد أنه سيتحقق من خلاله:

فلنقرأ شيئا من هذا الرقم الذي هو 11 مليار درهم أو مليار و100 مليون دولار، إنه لا يوجد هذا الثمن إلا في الدول الأوربية. أموال مهمة جدا. أما أن نكون قد وصلنا نحن هذا الرقم فزيادة على أنه حقيقة مفاجأة سارة فهو في آن واحد عنصر للاطمئنان ولشكر الله سبحانه وتعالى. ذلك أنه لا يصل هذا الرقم إلا الدول التي برهنت على طريقتها في دراسة الملفات من شفافية ونزاهة ودراية هي في مستوى الدول الراقية.

فمنذ سنة 1995 والمغرب يدرس بدقة هذا الملف. ويحيط نفسه بسياج من النزاهة ومن الاستشارة ومن الاستعانة بالرأي الحصيف. وهو يعمل في صمت، ولكن بجد واستمرار إلى أن وصل بعد خمس سنوات من الجهد الجهيد إلى أن يفتح ملفه أمام الملأ ويقول له: انظر هاهي صفحات ملفي طاهرة نقية شفافة ليس فيها إلا ما يدعو إلى الارتياح وإلى الافتخار.

فإذن تبقى- شعبي العزيز- من الأحد عشر مليار التي تحققت بعد أن أدخلت الحكومة في ميزانيتها 400 مليون دولار تبقى سبعة ملايير من الدراهم. وهو مبلغ مهم جدا. لأننا إذا عرفنا كيف نتصرف فيه يمكن لكل مليار أن يضاعف نفسه ثلاث مرات، وأن تصبح هذه السبعة ملايير درهم 21 أو 22 مليار درهم. وكيف ذلك؟

أولا: القرار الذي يجب أن يتخذ، وقد قمت باللازم في هذا الشأن وتذاكرت مع الوزير الأول حينما كان بالمستشفى، هو ألا تمس السبعة ملايير درهم أبدا. وألا تذهب إلى خزينة الدولة، وألا تصرف في ميزانية التسيير أو لسد الثغرات، بل يجب أن تكون في حساب خاص، وهذا الحساب الخاص هو الذي سيجعلنا بهذا المبلغ الكبير نجعل من المغرب ورشا كبيرا يهتز من جنوبه إلى شماله ومن شرقه إلى غربه. يهتز بالعمل والبناء والتجهيز، لا بالأعمال التي لا تسمن ولا تغني من جوع. ولا بالأعمال الاجتماعية الفارغة فقط. بل بالأعمال التي تخلف ما يشغل.

وهكذا يمكننا أن نضع برامج مدققة جدا خارجة عن التخطيط الخماسي. فانتظار التخطيط الخماسي هو روتين يأتي من الحكومة، هذه كرامة من الله. ورزق ساقه الله إلينا. يجب ألا ننتظر إدخاله في التخطيط الخماسي. فإن نأخذ من التخطيط الخماسي العمليات التي فيه أو بعض العمليات فهذا شيء ضروري، ولكن علينا أولا أن نستثمر في البناء… البناء الاجتماعي الكريم الذي لا يجعل الابن أو البنت يكبر في جو من عدم الرضى عن مسكنه وعن جواره وعن بيئته، يجب أن نستثمر إذن في السكن.. السكن اللائق والكريم.

ثانيـا: فك عزلة العالم القروي ببناء الطرق الثلاثية وتوفير الماء الشروب.

ثالثـا: إعطاء الأولوية، كما كان ذلك من ذي قبل للري والسدود.

رابعا: النظر في خلق شبكة قوية للصيد البحري، تمكن أولئك الذين يصطادون في الشواطئ أو غير بعيد عن الشواطئ أن يكونوا سلسلة من المدن الساحلية.

خامسا: بناء الطرق السيارة، تلك الطرق التي هي بمثابة الشرايين للجسد، وهلم جرا.

وكيف سيمكن لكل مليار أن يضاعف نفسه ثلاث مرات؟ السر هنا واضح. يجب على الدولة أن تكون نواة صلبة، وأن تشرك معها الخواص، فالنواة الصلبة سوف تكون دائما مكونة من مؤسسة عمومية أو مكتب من المكاتب الاقتصادية التي لها القوة والدراية.

وستجمع حولها الخواص والشركات المغربية والأجنبية. لأن تلك الشركات الأجنبية حينما تستثمر أموالها هنا سوف تريد أن تربح، ويتواصل ربحها، فيجب أولا اختيار المجالات الاقتصادية والاجتماعية التي تخلف بنفسها لنفسها ما يجعلها قادرة على النمو والتنمية، وثانيا اختيار البرامج، وثالثا وضع نواة صلبة لإشراك الخواص معها. ولمضاعفة هذا القدر ثلاث أو أربع مرات.

المال سيجري كالماء

“شعبي العزيز، إن ما أقوله لك كان حلما وكان أمنية، وأصبح اليوم حقيقة، وعلينا أن نحمد الله عليها، وفي القريب إن شاء الله أي في سنة 2000 ولا يفصلنا عن سنة 2000 إلا ستة أشهر. وربما قبل ذلك سوف ترى بنفسك. شعبي العزيز، بلدك يهتز طربا وعملا وبناء وتشيدا وافتخارا وآمالا وسوف ترى كذلك- شعبي العزيز- العاطلين مشتغلين، وسوف ترى في كل ناحية من نواحي المغرب القاصية منه والدانية الأعمال والأوراش والمال مثل الماء يجري من هنا إلى هناك.

إن الأموال عندنا في المغرب راكدة، والأبناك تكتظ بالأموال، وهذا مرض من الناحية المالية؛ مرض خطير في كل بلد إذا كان المال يكتظ في الأبناك، فالآن ستجد الأبناك فرصة سانحة معقولة اقتصادية ومالية لأن تخرج ذلك المال، فيكون هناك رواج، هناك «بايع شاري» كما يقول الناس، وهنا سوف تأخذ الدولة نصيبها من خلال الضرائب التي ستأخذها من هنا ومن هنا ومن جميع الخدمات التي ستتسع وستتغير وستتنوع”.

“بين الشعب والعرش تكامل للمصالح”

إذا كان خطاب عيد الشباب لسنة 1999 هو آخر ما قاله الملك الحسن الثاني للمغاربة، فإن خطابا آخر له رمزيته وقيمته السياسية ألقي في تلك السنة، هو خطاب العرش لثالث مارس 1999. فخطاب العرش يعتبر الخطاب السياسي الأول للملك خلال السنة، وفيه يعمد إلى تقديم “حصيلة” السنة الماضية وبرنامج السنة الموالية.

إلا أن الحسن الثاني قدّم في خطاب العرش الأخير، ما يشبه حصيلة 38 سنة من تربعه على عرش المملكة. وقال مخاطبا المغاربة: “منذ أن أناط الله بنا أمانة قيادتك، والسير بك نحو المستقبل الجدير بماضيك، المستجيب لطموحاتك المشروعة. لم نفتأ نعبد الطريق، أمام تقدمك المتواصل، متدرجين بك مرحلة مرحلة دونما تباطؤ ولا تسرع، مفضلين سياسة ما هو ممكن، التي لا تعني إيثار ما هو أسهل بل تعني انتهاج السبل و الخيار الوسائل المؤدية إلى ما ترتجيه”.

وأضاف الملك الراحل أنه “وفي أجواء هذا العيد الباعثة على التأمل في عمق هذه الروابط المقدسة، يجدر بنا أن نذكر بأنه على امتداد التاريخ الذي عشناه معا حققنا بفضل الله تعالى نجاحات باهرة. ورفعنا تحديات عديدة، وتفادينا عثرات كبيرة. وقد أتاحت مكتسباتنا الجلية الظاهرة، ونجاحاتنا المشهودة الباهرة لكل منا الاعتزاز المشروع بوطنه والثقة في مستقبله، كما أتاحت للمغرب ذيوع الصيت بين سائر الأمم والشعوب”.

فيما مهّد الحسن الثاني لذلك بتذكيره المغاربة بقيمة ومكانة العرش، والذي هو “كما أدركت ذلك شعبي العزيز بوحي فطرتك، هو إرادة عبر عنها أسلافك على مدى اثني عشر قرنا. وأورثوك مؤسستنا وروح الالتفاف حولها من أجل حياة وطنية يسودها التعايش والوئام. فهو رمز هذه الأمة، ومجسد إرادتها، ومشخص تاريخها المديد، ودليل قدرتها على إثبات وجودها بما يتجاوز ما يمكن أن يعبر عنه أي مفهوم من أي نوع كان، والروابط التي تصلك بعرشك وتصل العرش بك، والأواصر التي تشدك إلى عاهلك مثلما تشد عاهلك لخدمتك هي أكثر من وحدة مشاعر، أو تكامل مصالح، لأنها من طبيعة كيانك”.

من ثم انتقل الملك الرحل في أول خطاب للعرش يلقيه في عهد حكومة معارضه السابق عبد الرحمان اليوسفي، ليذكّر بكونه أسّس للتناوب السياسي بين الأحزاب، “باعتبارنا رمزا لوحدة الأمة وضمانا لاستمرارية الدولة، وراسما لاختياراتها الكبرى، عملنا على إقامة تناوب لتيارات سياسية متعددة فرصة تدبير الشأن العام، والتباري حول الكيفية التي يجدر أن تنجز بها الأهداف التي رسمناها. وهكذا يمكن لنخبة جديدة منتمية لمشارب سياسية مختلفة أن تحل محل سابقتها لإعطاء إدارة الشأن العام نفسا جديد وقوة محفزة”.

واعتبر الحسن الثاني أنه أتاح مناسبة لهذه النخبة “تمكنها من أن تلامس الواقع الصعب المراس للحكم، وأن تحتك بالملفات، وتكتسب في مجال التدبير ثقافة لم تكن من قبل لتقف على أسرارها وخفاياها. بيد أن المغرب المعبأ أكثر من أي وقت مضى لن يتمكن من جني أفضل الثمار من وراء تعاقب النخب، ولا أن يزيد من حظوظه، كما تزداد الأرض خصوبة بتعاقب الزرع إلا إذا تمخض التناوب – ليس فقط – على مجرد التزام من أنيطت بهم المسؤولية الحكومية، وإنما بالتزام كل من والاهم، والتف حولهم، وتعبأ وراءهم، سواء كانوا من زمرة مساعديهم، أو من المنظمات التي ينتمون إليها”.