story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

وصية العروي

ص ص

إذا كانت كتابات عبد الله العروي الأخيرة أشبه برسائل الوداع والاستعداد للرحيل، أطال الله عمره، فإن التصاقها الواضح بالأحداث الراهنة يجعلها بالنسبة إلينا بمثابة الوصايا.
لا أهتم شخصيا كثيرا بمسألة الاتفاق أو الاختلاف مع ما يكتبه الرجل، يهمني أكثر ميل الرجل في كتاباته الأخيرة إلى ترجيح كفة الفهم على الانتصار لهذا الخيار الفكري أو الآخر.
كما لا يهمي أصرار بعض إكليروس الثقافة الذين “ما يرحموا ما يخليو رحمة ربي تنزل”، أي أنهم لا يقرؤون الرجل، كما لم يقرؤوا غيره، بما يحمل على التقدّم في الفهم الجماعي لحال هذه الأمة، بمناهجهم وأدواتهم العلمية التي تربط هذا بذاك وتستحضر المشروع الفكري والسياق… ولا هم تركوا الناس تقرأ الرجل مباشرة دون وسيط ولا “حاجب”.
بعض هؤلاء يتصرفون تماما كما يتصرّف دعاة احتكار قهم وتأويل الدين، حتى عبد الله العروي يريدون عزله والاستفراد به، وفي النهاية إخفاءه بدعوى أن “العامة” لا يقدرون على فهمه أو إدراكه.
في مذكراته اليومية المنشورة أخيرا بين دفتي كتاب، تأمل مفتوح، وتفكير بصوت مرتفع، من جانب رجل حاز جميع الشرعيات التي تحمل على الانصات لتفكيره، دون أن يعني ذلك بالضرورة الخضوع لأفكاره.
شخصيا أجد جل ما يكتبه الرجل عن الأحداث الراهنة، الساخنة والمتحولة وغير المكتملة، مخالفا لما تشكل لدي من قناعات واختيارات، في الشأن الداخلي كما الخارجي، في العلاقة مع الجزائر وفرنسا والولايات المتحدة، كما في الشأن السياسي الداخلي والسبيل نحو التقدم والديمقراطية وطقوس الحكم وسياسة الأوراش الكبرى…
لكن لأنه ذلك المفكر الذي اقترب من السلطة وجاورها دون أن يتخلى عن عدته العلمية والفكرية، علينا أن ننصت إليه، ليس لتصديقه والتأمين على أفكاره بالضرورة، لكن على الأقل لأن أحدا ممن يريدون “إرشادنا” تماما كما يفعل “المرشد الأعلى” في سياقات أخرى، يقدم لنا ما يشفي الغليل من جمع بين حقول المعرفة والمناهج وأدوات التفسير.
وهذه باقة جديدة من أبرز “وصايا” العروي الجديدة:
 في العلاقة مع الجزائر، يوصينا عبد الله العروي بنسيان أمر التآخي والتآزر وبناء أي مشترك مع جارنا الشرقي. المشكلة بالنسبة إليه ليست مع نظام متهور أحمق، بل مع بنية فكرية عميقة تعادي المغرب والمغاربة، ودليله في ذلك أن حتى المعارضين للنظام السياسي الجزائري، لا يختلفون في موقفهم من المغرب عن حكامهم ولا يخرجون عن النغمة السائدة في الأوساط الرسمية. المشكلة حسب العروي أعمق حتى من الخلاف الحدودي الذي يصرّ أنه قائم وسيضل قائما، وأكبر من عقدة حرب الرمال ولا من العقيدة البومدينية… ويذهب مفكرنا في هذا المنطق إلي درجة افتراض أنه حتى لو لم يصل العرب إلى شمال إفريقيا ولم نصبح نشترك في الدين واللغة و… لكان الصراع والمواجهة أمرا حتميا بين المغرب والجزائر.
 في التموقع الدولي يحذرنا العروي، كما دأب على ذلك منذ بداياته، من الغرب ومن الانبهار به. صحيح أنه يقرّ بكونه خريج الجامعة الفرنسية (French Educated) واشتغل علميا في الديار الأمريكية، ويكاد لا ينتقل من صفحة إلى أخرى دون أن يستشهد بفيلسوف أو عالم غربي، لكنه ينبّهنا إلى أن الغربيين ليسوا جميعا ديمقراطيين، ولا أبرياء من جرائم الاستعمار والإبادة والحروب الدموية التي أعلنوها على أمم الأرض في الشرق والغرب. هناك نزعة عقلانية-براغماتية يوصينا العروي، على امتداد مشروعه الفكري، باعتناقها، والتخلي بالتالي عن التطلع المثالي نحو الغرب وديمقراطيته.
 في الشأن الاقتصادي والتنموي يعود العروي في آخر مذكراته للدفاع عن منطق الاقتصاد في الفهم والتحليل. خطاب التذمر من سياسة الأوراش الكبرى ومشاريع الطرق السيارة والموانئ والقطار فائق السرعة… لا يقنع ولا يستهوي هذا المؤرخ والفيلسوف. يقول إنه يتمنى لو أمكننا الجمع بين هذه المشاريع وتعميم الخدمات الاجتماعية والتأمين الصحي والولوج إلى الخدمات الأساسية لجميع المغاربة، لكنه يصفعنا في إحدى “تدويناته” الحديثة بالقول إننا بلد فقير، يحتاج إلى العملة الصعبة الكافية لشراء السلاح والمواد الأساسية، وإن المصدر الأساسي من هذه العملة هو السياحة ومغاربة الخارج، وبالتالي لا مناص من تخصيص البنيات الأساسية لاستقبال هؤلاء والحصول على عملاتهم الثمينة.
 يتهم البعض عبد الله العروي ب”التخلدن” (السير علي منوال ابن خلدون) في تكريس علمه ومعرفته لخدمة “الأمير”. ويذهب البعض الآخر في صالونات الثقافة والسياسة إلى أن الرجل “اشتغل بشكل سري” لحساب المخزن، وظل رغم ذلك ناقما على عدم حصوله على المكانة التي يفترضون أنه تمناها لنفسه بجوار “الأمير”… وفي أوراقه الأخيرة لا يبدي العروي أي اهتمام بذلك، ويردّ على مناهضي الطقوس المرعية ل”دار المخزن” بجنازة الملك إليزابيث ومراسم تنصيب ابنها ملكا لبريطانيا. يقول العروي لهؤلاء انظروا كيف جرت المراسم بشكل يكاد يطابق طقوس البيعة في المغرب، دون أن يجعل ذلك المواطن البريطاني أقل حرية ولا أقل تمتعا بالديمقراطية من نظيره في الديمقراطيات غير الملكية. “ابحثوا عن المشكلة في مكان أخر بعيدا عن البيعة” يقول العروي لهؤلاء.
 وفي انتظار أن يجود علينا البعض بدراساتهم العلمية العميقة والتي تأخذ مسافة وتضع أفكار العروي في سياق مشروعه الفكري… يمنحنا الرجل تفاعلا فوريا مع خطاب العرش لسنة 2022 الذي تطرق فيه الملك لموضوع مراجعة المدونة مذكرا بأنه لن يحل حراما ولن يحرم حلالا. عبارة قال العروي إنها لا تقول شيئا عن القناعة الداخلية للملك ولا عن الكيفية التي يمكن أن تؤوّل بها النصوص. كما يعيب على الجمعيات النسائية دعوتها الملك إلى السير عكس رأي علماء الذين، قائلا إن ذلك يشبه دعوة بابا الكنيسة إلى مباركة الزواج المثلي… ويقترح العروي على الدولة في المقابل، إقرار إلزامية الوصية لحل الخلاف حول الإرث.