story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

‘الموتشو’ وهوية المغربي

ص ص

قرأت رواية ‘الموتشو’، لمؤلفها حسن أوريد، مرتين؛ مرة بطلب من صديقي أمين الكوهن، أستاذ التاريخ والباحث في المسألة اليهودية المغربية -لا بطل الرواية المتخيل طبعا-، ومرة بحافز باطني غايته تعميق الفهم لمسائل تتجاوز الكتابة إلى استيعاب طرائق السرد واسكتناه جماليات الفن الروائي. 

وجدتني في القراءة الثانية، أتجاوز دهشة القراءة ونشوة الذات المنعكسة عبر المرآة الروائية، وأقفز على قضايا السرد وأبعاده، مندفعا نحو التساؤل حول موضوع خاص استنفذته وسائل الإعلام خلال السنوات القليلة الماضية في سجالاتها وجدالاتها، وأشبعته أقلام الإبداع والفكر بالدرس والنقد والتحليل. هذا الموضوع هو الهوية.

يتجلى الانتماء في ‘الموتشو’- ظاهريا على الأقل- كأنه وطن عابر للأقوام المختلفة، إذ يضم شتاتا هائلا من الأقوام والأعراق؛ منهم الأمازيغ والعرب والأفارقة والعجم وغيرها، ومن الأديان؛ منها الإسلام والمسيحية واليهودية واللادينية وغيرها؛ ومن التعبيرات العلمانية والليبرالية والاشتراكية، الخ. قد يبدو هذا الأمر مثاليا، ولربما أمكن لوطني متحمس، أو لدستوري غيور، أن يقول إن ‘الموتشو’ تعكس روح هذه العلائق الجماعية التي ينص عليها دستور 2011، وإن أوريد تفطن لهذه الفكرة الخلاقة التي سينبني عليها مستقبل ‘أمة’ منفتحة وحديثة، هي قيد التشكل في الوقت الحاضر. تتخذ شخصيات الرواية طابعا تمثيليا، إذ تعكس كل واحدة منها مكونا ما، بحيث يكاد المغرب يكون هو العالم، ويكون العالم هو المغرب.

قد يكون الأمر كذلك. لكن الهوية في هذه الرواية، كما استوعبتها الآن بعد القراءة الثانية، تبدو أشبه بسجن ذي زنازين متعددة ومختلفة تحت سماء ملبدة بغيوم كثيفة وداكنة. ثمة الأمازيغي المنغلق على أمازيغيته، المناهض للعروبة والقومية العربية، لكنه لا يمانع في أن ‘يتفرنس’ أو يتسرأل’- بل وأن ‘يتصهين’ أحيانا. وثمة اليهودي الذي يبدو متشبثا بعمق جذوره المغربية، لكنه يرنو إلى أن يكون إسرائيليا أو فرنسيا أو كنديا، الخ. وثمة العربي الموغل في عروبته، يرفض أن يرى في غيره شريكا في الوطنية والمواطنة، بدعوى انتمائه إلى ‘الأمة الخيِّرة’. وقس على هذا باقي الانتماءات. هكذا تظهر ‘الموتشو’ خريطة انتماءات المغاربة، إذ تتمظهر عبر ‘سيادات’ خاصة، تأبى الذات أن تتنازل عنها بسهولة.

وبصرف النظر عن ‘الموتشو’، يمكن القول إجمالا إن الهوية- بمختلف تجلياتها التي عكسها الإعلام المغربي خلال السنوات القليلة الماضية ويحذو حذوه الأدب الآن- تعكس ‘وجع الجذور’، إذا جاز لي أن أقتبس عنوان رواية البشير الأزمي. ذلك أن هوية المغاربة- أو بالأحرى هوياتهم- لم تفلح في التخلص من ‘نفوذ’ الأصل. ما يزال هذا ‘النفوذ’ يفرز كل هذه الأوجاع الفردية والجماعية التي تستدعي، من المشرع أساسا، أن يحفظ مربعا خاصا بهذه الهوية أو تلك. وما يزال يحول دون أن تتحقق قدرة هذه الذوات المختلفة على أن تبلور وجودها المتعدد ضمن كيان موحد يسلم جدلا بتنوع أصوله وروافده وبتعددها، دون أن يخضع المسألة لنقاش بيزنطي طويل لا طائل منه.

صحيح أن ثمة ما يبرر، من الناحيتين الذاتية والموضوعية، هذا الحضور الطاغي لموضوع الهوية في الفضاء العمومي في الألفية الجديدة. ثمة على الأقل مقولتان بارزتان تبررانه؛ تفترض أولاهما أن معرفة الذات مسألة ضرورية في كل زمان. بينما يمكن تلخيص الثانية في تحقيق نوع من المصالحة بين المكونات المغربية المختلفة، التي تصدعت بفعل الاستعمار في البداية، وحركة الصهينة لاحقا (لربما أمكن القول إن الدافع وراء تأليف ‘الموتشو’ كامن في المقولتين معا). لكن هذا الحضور يسعى، من جهة أخرى، إلى تبرير التحولات الجيوسياسية الإقليمية والدولية التي لا تقوى آليات التحليل السياسي وحدها على تقديم مبرر منطقي لها اليوم.