story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

الفرزدق في زمن الغلاء

ص ص

كانت للفرزدق، ابنة عم تدعى نوار، تقدم ذات يوم شاب لخطبتها، فذهبت لابن عمها، تسأله وتلتمسه أن يتولى شؤون زواجها، فطلب منها أن تشهد شهودا على ذلك، فقبلت، وما إن جعلته وكيلا عليها، حتى نطق: “فلتشهدوا أني زوجتها نفسي”، وهكذا كان الوكيل أول من آتى وطره منها.

وفي نفس مجرى العبرة، تقدمت جماعة لأحد كبراء البلد، وهو رجل عرف بالثراء والجاه وحصافة الرأي، ليتولى زمامها، وينظر في شؤونها، ويدير أمورها، بعد أن أنهكها الوباء، وأطاح باقتصادها. كان الأمل، أن تساق الأمور والحاجات، بحكمة ورزانة وصدق وعد، بعد أن بات الاستقرار المجتمعي مهددا إبان ظروف العالم. وكانت الأماني، كلها، معقودة على من رأت فيه الجماعة خلاصا لها من ويلات العالم. لكن عيشهم ظل ضيقا، رغم فسحة الأمل، وما نيلت مطالبهم عقب التمني، فعين الحاكم اتسعت جشعا، وبطنه امتلئت طمعا، وصار ينهب البلد، ويتعلل بشح الأمطار، وانتشار الأمراض وحرب الجيران…

كانت الأوضاع تسوء أكثر وأكثر، والأزمات تطوق مساعي الحياة جلها. المحروقات، التهبت أسعارها، ومس الغلاء كل شيء حتى بات الأمن الغذائي عينه مهددا. ثمن لتر البنزين بلغ أرقاما قياسية، والنقل صارت تكاليفه ثقلا على المواطنين، خاصتهم وعامتهم. المهنيون رفعوا عاليا صرخات الاستنجاد، ولا مغيث… كانت الندوات والاجتماعات والمشاورات، تعقد كأنها لم تعقد. كأن خريف الأمة هذا، كان ربيعا للحاكم.

على شاشات التلفاز، وعبر موجات المذياع، وحتى بين حيطان المقاهي، لا حديث سوى عن سوء الأوضاع وضيق الأحوال. كانت الخلاصة ثابتة لا تتغير، المفاد واحد، قدر الله وما شاء فعل. وبقلوب كلها إيمان، استوجب القبول والرضى. لكن، وبينما الكل يتخبط كيرقة داخل قشرتها بحثا عن الخلاص، رفض مصطفى، سائق الأجرة الخنوع. بل أن عقله الفذ تحدى العراقيل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بحثا عن حلول مبتكرة تخفف وطأة الأزمة. ثم وجد الحل. علم مستخلص من زبد الفيزياء والكيمياء وهندسة الغازات، علم لا يدركه سوى هو، ولا يتحقق سوى في حضرته؟

في أحد الأيام، وبينما كان يقل أجرة كعادته، و يشارك بكل جود وسخاء بعضا من علومه الشاملة وثقافته الشاسعة وحتى دخان سجارته رخيصة الثمن، مع الزبونة دون أدنى طلب منها. نبهته المسكينة لانبعاث رائحة ما من السيارة. تنحى مصطفى جانبا ثم توقف، ونزل يراقب كمهندس وسط ميدانه مصدر الانبعاث، يشم بتمعن بعض أجزاء السيارة، يتحسسها بيده، ويرمق زبونته بابتسامة خفيفة كلها ثقة وكأنه يقول “لا داع للقلق، الأمور كلها تحت السيطرة”.

كانت الرائحة منبعثة من تركيبته اللبيبة تلك، قنينة الغاز التي وصلها بالمحرك حتى يقلل من استهلاك البنزين، ويقلل بذلك تكلفة الرحلة. ما لا تعرفونه، أن مصطفى والابتكار واحد. فحيثما ذكر مصطفى، ذكر العلم، ولا ذكر للعلم دون ذكر مصطفى. ولأن عقله النير يولد أفكارا وحيلا، جرب بالولاعة انسياب الغاز من القنينة، والمفاجئة أنه لم يكن في الأمر مفاجئة. انفجرت القنينة، واحترق مصطفى واحترق وجه الزبونة. رأيتها في قاعة الفحص بالمستعجلات، بعد أن أكل الحريق جلدها. أمسكت يدي بتوسل وقالت :”واش فلوس لاسورانس تشري لي دار؟”