story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

العمق الإفريقي 

ص ص

عرفت منطقة الغرب الإفريقي/إفريقيا جنوب الصحراء تحولات لافتة، استأثرت بالاهتمام العالمي، سواء من طرف صناع القرار في عواصم دول الهيمنة، أو من طرف كبريات وسائل الإعلام الدولية، بحيث إن أخبار المنطقة تتصدر أحيانا نشرات الأخبار متقدمة حتى على تطورات الحرب الروسية في أوكرانيا.

فبعد تراجع الاهتمام العالمي بمشكلات الشرق الأوسط ونزاعاته، إلا ما برز بين الفينة والأخرى من التفات لتطورات البرنامج النووي الإيراني، ذهب أغلب المحللين إلى أن بؤرة الاهتمام ستتوجه إلى المناطق الآسيوية التي لها علاقة بالمجال الحيوي للصين، وإلى روسيا ومحيطها الإقليمي، بما في ذلك الجمهوريات الإسلامية سواء التي كانت جزءا من الاتحاد السوفياتي أو تلك المتاخمة للهند، ومناط الاهتمام بهذه المناطق له علاقة بالصراع الأمريكي الصيني على الهيمنة، وبما تكتنزه هذه المناطق من ثروات طاقية ومعدنية ومائية، من شأن السيطرة عليها، أو على مسارات تحركها أن يقود إلى بناء نظام دولي جديد أو استدامة القائم مع تحولات بسيطة ستتحكم فيها تفاهمات صينية أمريكية أساسا.

 لكن، فجأة تحول الاهتمام العالمي صوب القارة الإفريقية، وخصوصا الشريط الممتد أفقيا من السودان شرقا إلى مالي غربا (مع توقع امتداد هذا الشريط للمحيط الأطلسي، وفق نظرية الدومينو)، مرورا بالنيجر وبوركينافاسو.

أغلب النقاشات في بلاتوهات القنوات الغربية (لا يتعلق الأمر بالقنوات الفرنسية فقط، بل حتى الأمريكية والإنجليزية والألمانية) تحاول تركيز النقاش في قضايا الهجرة غير النظامية، أو الحرب على الإرهاب، أو زعزعة الاستقرار، أو إعاقة التحولات الديموقراطية في المنطقة، بينما في الإعلام الروسي نجد عودة لتحليلات تعتمد مقاربات تحيل على زمن حركات التحرر من الاستعمار، وتروج لمقولات تستمد بنيتها الخطابية من تيار ما بعد الكولونيالية بمسحة تكاد تقترب من توليفة بين “الأفروسونتريك” وتنظيرات ألكسندر دوغين.

في الحالتين معا، لا يسعفك الاستماع لكل هذه التحليلات في فهم مسببات ما يقع في هذه المنطقة، وكذا تداعياته خصوصا على دول الجوار الإقليمي، بما فيه المغرب.

أن تتصدر أخبار السودان، وبعدها مالي وبوركينافاسو، ثم النيجر الاهتمام العالمي، لا يمكن أن يجد تفسيره في الانعكاسات الإنسانية المرتبطة بالقتل واللجوء والهجرات غير النظامية والتشريد، فليس العالم بهذا الحس الإنساني النبيل، ولا تحركه أي إيثيقا خارج المصالح، ولا يمكن كذلك أن يجد تفسيره في يوتوبيا التحرر من الاستعمار الجديد محمولا على صهوة الانقلابات العسكرية.

الأساس، أن هناك صياغة جديدة للمنطقة، وأن ما يظهر على السطح، هو بمثابة الارتدادات التي تلازم مقاومات لأنساق قديمة تتطور ببطء في مواجهة أنساق جديدة لم تعد تقبل الانتظار من أجل التسيد، ويبقى السؤال: من هم أصحاب الطلقة الأولى؟ هل الانقلابات فعل أم رد فعل من قوة دولية على قوى دولية أخرى تقرر المصير؟

بالطبع، فاللاعبون الدوليون الكبار يدركون ما يقع، لأنهم صانعوه (فعلا ورد فعل)، وكذا مختبرات البحث والجيوستراتيجا الحقيقية (التي لا تشبه تلك التي يؤسسها البعض عندنا لتسول مرور تلفزيوني مؤدى عنه) وخاصة تلك التي لها ارتباطات بمخابرات وبوزارات الدفاع (التسليح حقيقة) في دول الهيمنة.

لكن، ماذا عنا؟

لا شك أن ما يقع في السودان وبوركينافاسو ومالي والنيجر ستكون له انعكاسات على بلدنا (أمنيا، واقتصاديا، وتموقعات…)، خصوصا إذا استمرت قطع الدومينو في التساقط.

ما نسمعه وما نقرأه في القنوات والمواقع والصحف المغربية، إضافة إلى ما قلته، وكأن النيران بعيدة عنا، فهو يبين أننا لا نتوفر على مختصين في الشأن الإفريقي، أو أن المختصين فيه لا تعطى لهم الكلمة، فما يقال أو ما يكتب هو اجترار الحديث عن أن المخاطر ستكون مرتبطة بتدفق الهجرة غير النظامية أو انتعاش شبكات الجريمة المنظمة والاتجار في البشر، وعودة نشاط الإرهاب الديني (مع تطمينات بأن المغرب له تجربة في التعامل مع هكذا أزمات أمنية).

ولن تجد في كل هذا حديثا تتبين من خلاله إلماما بتاريخ المنطقة، وتركيباتها الدينية والإثنية، واقتصادها، وثرواتها، وتحولاتها السياسية، ووضع ما يقع في سياق التحولات العالمية وصراعات النفود بأرقام مضبوطة، وطبعا لن تجد تفسيرا للتردد في السياسة الخارجية المغربية، فلا هي نددت بقوة بالانقلاب، ولا هي رفضت التدخل الخارجي بوضوح، ولا هي تحركت في جهود وساطة إقليمية أو إفريقية أو أممية.

هل يتعلق الأمر بحكمة؟ أم بغياب رؤية استباقية؟ أم بغياب إلمام بالمنطقة حتى من طرف الفاعل الدولتي وليس الفاعل البحثي فقط؟

لا يمكننا إلا أن نكون مع أي سياسة خارجية منتبهة لأهمية العمق الإفريقي، لكن ما يقع يعطي مؤشرات (نتمنى أن نكون خاطئين) بأننا لا نفهم أصلا هذا العمق، ودعك من الحديث المكرور عن الاستثمارات المغربية في إفريقيا، التي تظل أهميتها محدودة إذا علمنا أن الصين تصل استثماراتها في المنطقة إلى 282 مليار دولار، والاتحاد الأوروبي إلى 254 مليار دولار وأمريكا إلى 83 مليار دولار، وحتى روسيا التي يتم تقديمها أنها منافس للمصالح الصينية والغربية لا تصل استثماراتها سوى إلى 18 مليار دولار، أغلبها عبارة عن توريدات من الأسلحة ( 40 في المئة من السلاح في المنطقة روسي).

 في الحاجة إلى مراكز بحث حقيقية حول إفريقيا، وإلى تحرك استراتيجي معقلن، وإلى القطع مع تفسيرات فيها البروباغندا أكثر من التحليل، وهي بروباغندا تسيئ حتى لبعض العناصر المفيدة في بناء علاقات إيجابية مع هذا العمق ( دينية وثقافية وتاريخية).