story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

اسمع صوت الشعب..

ص ص

إذا كان هناك من خطر يهدد مصالحنا الوطنية العليا في ارتباط بما يجري حولنا من تطورات إقليمية ودولية، فهو أن نترك هذه الأمواج البشرية التي تخرج بشكل شبه يومي إلى شوارع وساحات المدن دون تفاعل.
لا نتمنى بالطبع أن يسمع أحد المسؤولين هذا الكلام فيبادر إلى تقديم جواب قمعي أو سلطوي كما حدث قبل يومين في بعض المدن، حين تحركت القوات العمومية لتفريق بعض الوقفات والمسيرات الشعبية بالعنف، لكن هناك اليوم واجب سياسي ووطني إنساني سيلاحقنا في المراحل المقبلة ويسائل ضميرنا الجماعي. ولن تسعفنا مستقبلا مبررات الاكراهات الدولية والتوازن بين مصالح الأطراف المؤثرة في محيطنا.
إذا كان هذا الخطاب قد أسعف، نسبيا وعلى مضض في المرة السابقة، حين اضطررنا للجلوس إلى طاولة توقيع اتفاقية إحياء العلاقات الرسمية مع كيان إجرامي ممقوت، فإن الفلسطينيين في جيب غزة خرجوا إلى العالم بصدورهم العارية، إلا من الايمان بحقهم الراسخ في الأرض والحرية، وحررونا جميعا من هذه الحسابات الصغيرة ووضعونا أمام مسؤولياتنا وقبالة مرآة ضمائرنا.
هناك تفاوض جديد يجري اليوم على خلفية هجوم 07 أكتوبر المجيد، فتح المنطقة ومعها العالم على احتمالات كانت إلى وقت قريب تبدو ضربا من المستحيل.
وتطالعنا الصحافة الأمريكية اليوم بأخبار مساع قوية ودقيقة تقوم بها إدارة بادين من أجل انتزاع اعتراف عربي ضخم بالكيان الإسرائيلي، من حجم اعتراف المملكة العربية السعودية، وذلك مقابل اتفاقية دفاع تحمل للمملكة ضمانات عسكرية جديدة بما فيها إمكانية الحصول على مفاعل نووي يوجه للاستعمالات المدنية… والخطوة تبدو حتمية من أجل حمل نتانياهو على القبول بهدنة طويلة أو وقف لإطلاق النار، قبل موعد الانتخابات الرئاسية المرتقبة في الولايات المتحدة الأمريكية.
نعم، صحيح أن ما نتابعه يوميا من جرائم ومجازر وفظاعات ترسمها أشلاء ودماء الأبرياء، يحمل على الأسى والحزن ويدخل بعضنا في نوبات من الاكتئاب والأزمات القلبية والانطواء على الذات والشعور بالعجز وتأنيب الضمير، لكن المقاوم الفلسطيني يستطيع في مقابل كل هذا الثمن الباهظ التأثير في المعادلة الدولية، وفي المفاوضات الإقليمية الجارية، وفي المستقبل السياسي لأكبر قوة عرفتها البشرية على الإطلاق، هي الولايات المتحدة الأمريكية.
الصحافة الأمريكية الرصينة التي تأتينا بأخبار هذا التفاوض الإقليمي وما يصاحبه من ضغوط وابتزاز واستعمال لأكثر الأساليب خسة على الإطلاق، هي نفسها التي تنبّهنا إلى شبه استحالة الحصول على صفقة من حجم التطبيع السعودي في مقابل موافقة الحكومة اليمينية المجرمة في إسرائيل على العودة إلى فكرة حل الدولتين، وتمرير اتفاقية الدفاع الموعودة مع الرياض في الكونغرس في سياق انتخابي محموم، تمكنت المقاومة الفلسطينية بكل شجاعة من تأزيمه بشكل يكاد يقضي على آمال الرئيس الأمريكي الحالي، جو بايدن، ومعه الحزب الديمقراطي، في العودة إلى البيت الأبيض.
ليس الهدف من هذا التحليق البعيد في سماء التفاعلات الدولية والإقليمية شرح أو تفسير أو تأويل الأوضاع الدولية، بل الغاية هي تقديم الدلائل، لمن ما زال يحتاج إلى دليل، على أن ذلك المواطن المغربي الذي يخرج اليوم إلى الشارع مواجها البرد والمطر ومخاطر التعرض للأذى في حال تغيّر مزاج السلطة، لا يحمل مطالب عبثية ولا طوباوية.
ومثلما كان سياق ما قبل انتخابات 2020 الأمريكية حاملا لما اعتبره بعضنا “فرصة” لانتزاع اعترافات لا نرى لها حتى الآن أثرا على مصالحنا الوطنية ووحدتنا الترابية، هناك اليوم فرص أخرى، واضحة وبديهية، لتحرير الدولة مما يمكن أن تكون قد أكرهت عليه قبل أربع سنوات، وإعادة تموقعها في قلب الوجدان الشعبي، أي الحاضنة الوحيدة والضمانة التاريخية لاستقرارها وثباتها ومواجهتها للتحديات الخارجية.
لقد بذل البعض مجهودات كبيرة لإقناعنا في السابق ب”عبقرية” انتهاز فرصة بحث الرئيس الأمريكي السابق عن مكاسب انتخابية، والدخول على خط قضية كانت حينها تبدو شبه ميتة وقريبة من الحسم في اتجاه تكريس الاحتلال وفرض الهزيمة على الفلسطينيين. واستعان هؤلاء حينها بخطاب “تازة قبل غزة” و”لن نكون فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين”، وها هم اليوم فلسطينيو غزة قد خرجوا بشكل جماعي ليقدموا أرواحهم قرابين على أعتاب ضمائرنا جميعا، ليس لنصرتهم أو دعمهم فقط، بل للانتصار للإنسان فينا والإخلاص لأنفسنا والحفاظ على ما يصنع سر بقائنا وصمودنا عبر التاريخ.
لن يكون بإمكان أي كان بعد ما يجري أمام أعيننا من تلاطم للأمواج وفتح لقنوات الفعل والمبادرة، أن يدافع عن فكرة الاضطرار ولا الدفع بأطروحة المصالح الوطنية في مقابل مصلحة “الآخر” الذي لا يِقصد به إلا الفلسطيني، في مقابل تقديم المحتل والظالم والقتّال، على أنه جزء من الذات وامتداد لها، بقراءات متعسفة للبنية الثقافية والمعطى الديني الذي لا يمكنه في الماضي ولا في الحاضر ولا في المستقبل، أن يبرر الوحشية والدناءة والإفلاس الأخلاقي الذي يراد تكريسه.
أمامنا في الشهور المتبقية عن موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية، فرصة سانحة، أهدانا إياها مقاومو وشهداء غزة، لاستعادة ما ضاع منا قبل الانتخابات السابقة، واسترجاع التوازن الذي كان يسمح لنا بالدفاع عن مصالح وطننا، والتضامن من الفلسطينيين، وإغلاق الباب في وجه نتانياهو لمجرد لقاء الملك على هامش قمة إفريقية أو التسلل إلى طائرة وزير خارجية أمريكي للوصول إلى الرباط.
والأهم من كل هذا، أنه كان يسمح لنا، مع كل الاختلافات والتناقضات الداخلية، وبعضها مر وقاس جدا، أن نطمئن إلى وقوفنا جميعا في الخندق نفسه.