story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

أيها ‘الفنان’.. قم للمعلم وفه التبخيسا!

ص ص

شاءت الصدف أن يتزامن عرض عمل تلفزيوني مثير للجدل حول شخصية الأستاذ المغربي مع حادثة مفجعة أودت بحياة أساتذة وتلامذة كانوا في طريق عودتهم إلى الفصول الدراسية، بعد انتهاء عطلتهم. أثار هذا العمل من جديد صورة الأستاذ، الذي يراد له منذ زمن بعيد أن يتحول إلى مشجب تعلق عليه جميع إخفاقات المدرسة المغربية. والجدل الراهن نابع من أن النية وراء عرض هذه الصورة، التي تمثل الأستاذ تمثيلا سلبيا، هي نية مبيتة ومغرضة، غايتها تكريس موقف نمطي يبخس دور هذا الذي وصفه الشاعر أحمد شوقي، في قصيدته المشهورة ‘قم للمعلم’، بأنه يكاد يضاهي مكانة الأنبياء.

وهنا يمكن القول- ولو أن المصاب جلل- إن حادثة أزيلال أعادت إلى الأذهان بعض هذه المتاعب الجمة التي يتحملها الأستاذ، هذا الكائن العجيب، من أجل تعليم أبناء الجبال والوهاد والقفار والصحاري القراءة والكتابة. يتحمل الأستاذ كل هذه المتاعب، في ظل شروط وظروف عمل، أغفلتها الدولة قبل أن يغفلها العمل التلفزيوني موضوع الجدل الراهن. وبما أن هذه المتاعب، التي لا تجازيها الدولة كما ينبغي، ما تزال تثمر إنسانا يعي ما يحاك ضده، فلا بد من تنميط الأستاذ وقلب صورته في الأذهان، من أجل تصويره كائنا “شبع خبزا”، ويستحق أن يجلد ويرجم بالحجر.

لا يهم هنا موضوع العمل التلفزيوني، ولا حتى أدائيته ونتائج مشاهدته. فالمفروض أن يتناول الفن- بمعناه الفعلي- كل القضايا والمواقف والظواهر والشخصيات، بما أنها فاعلة في الدولة والمجتمع بطريقة معينة. وليس الأستاذ أو غيره فوق المحاسبة، وإن عبر بوابة الفن على الأقل. لكن ما يهم هنا هو السؤال التالي: لماذا يتكرر هذا الموقف المجتمعي، بما يثيره من جدل، كل سنة من الأعمال التلفزيونية الرمضانية؟ لماذا يثار كل هذا اللغط منذ عشرين سنة أو أكثر، دون أن تتوقف هذه المؤسسة الرهيبة- التي تسمى تلفزيونا- لتنصت إلى رد الفعل الاجتماعي وتقيم منتوجها، بما يحترم ذائقة المتلقي؟

هناك من اعتبر أن المجتمع ينظر إلى هذه الأعمال المستهجنة بمنظار أخلاقي، أو من زاوية كونها لا تعكس الواقع، ولا الهوية والقيم المغربية، الخ. ورغم أنه لا ينبغي أن نحرم المتلقي من حقه في التعبير عن موقفه من هذه الأعمال، مهما كان منطلقه أو تبريره، إلا أنه لا بد من إبداء ملاحظة مهمة، مفادها أن من يسهرون عليها لا ينصتون حتى للنقاد العارفين والمتبصرين نظريا ونقديا، الذين تصدر مواقفهم منها عن منطلقات فنية وجمالية، ولا شيء غير ذلك، بل ويهملون حتى المرجعيات الفكرية المعروفة التي تؤطر الإبداع عموما.

على سبيل المثال، يقول المفكر المغربي الراحل عبد الكبير الخطيبي إن الإبداع “يبتكر فضاءات جديدة ووطنا جديدا لأحاسيسنا وخيالنا.” وأظن أن ما يقصده الخطيبي بهذا الإقرار هو الانتقال بما نراه ونعايشه يوميا من مستواه الواقعي إلى مستوى مجرد، من شأنه أن يدفع بنا إلى مجاهيل قلق السؤال والنقد، وأن يخلصنا من نظرتنا الفولكلورية إلى العالم والأشياء. ومن شأنه أيضا أن يعبر بنا من غريزة العنف التي تبددنا يوميا إلى أفق التجدد المنتج، ومن لغتنا التي نثغثغ بها إلى عالم الرمز الذي يجعلنا قادرين على التواصل والتأويل بشكل منفتح ومتعدد. للأسف، لا نصادف هذه الرؤية في الأعمال التي تعرض في قنواتنا منذ سنوات، إذ يبدو أننا فقدنا هذه البوصلة التي أوضحها الخطيبي وغيره من المفكرين والمبدعين المغاربة منذ سبعينيات القرن الماضي على الأقل.

إن الصورة النمطية التي تنتجها الأعمال الرمضانية حول الإنسان المغربي، أكان أستاذا أم تاجرا سوسيا أم ‘عروبيا’ أم غيرهما، عاجزة عن خلق هذا الوطن الجديد، الذي يتحدث عنه الخطيبي. بل إنها لا تستطيع أن تلبي رغبة الفرجة، التي خلقتها ثقافة الصورة وأثرها العارم، ناهيك أن تناقش هذه التحولات العامة العميقة التي يشهدها المجتمع المغربي منذ بضعة عقود. يبدو الأمر بالفعل كأننا أمة عاجزة عن الإبداع والتخيل. من هنا، لم يعد مقبولا أن تواصل هذه الأعمال التركيز على هذه الصورة النمطية المكرورة، بل أضحى لزاما أن تفكر في استجلاء هذه التحولات، أي أن تخلق وطنا جديدا أمام المشاهد. وفي المقابل، وجب التنويه ببعض الأعمال المعروضة على منصات إلكترونية التي تحظى بمتابعة وتفاعل مهمين. لقد أدركت حاجة المشاهد إلى فرجة جديدة ومغايرة تنصت لنبض التغير الاجتماعي الراهن، وكذا الحاجة إلى تعبير فني جديد يتجاوز القنوات التلفزيونية الرسمية إلى صناعة أفق فني يليق بذكاء هذا المشاهد. فهل ستنجح هذه المنصات في أن تكون وسيطا بديلا لفن حقيقي يعالج قضايا المواطن وتحولاته بموضوعية، بعيدا عن التنميط؟